موقف مع الجاحظ

موقف مع الجاحظ

كان الجاحظ قلعة في الدفاع عن اللفظ ونظم اللفظ وطابعه وتأثيره، حتى عد هذا أي اللفظ المختار في موضعه ومخارجه السهلة وديباجته أنه الاعجاز وأنه هو التحدي، وليس هناك إعجاز أو تحدٍ إذا لم تجد السبك الجيد الذي يؤدي إلى المعاني المنتخبة التي تريدها. لقد قرأ الجاحظ بيت الحطيئة فأعجب به كل العجب، ما الذي أعجبه فيه؟ أعجبه فيه لفظه وطبعه ونحته وسبكه، قال الشاعر الحطيئة:
متى تأتِهِ تعشو إلى ضوء ناره: تجدْ خير نارٍ عندها خير موقدِ
قال الجاحظ إذ قرأه (ما كان ينبغي أن يمدح بهذا البيت إلا من هو خير أهل الأرض)، لماذا رآه بهذه الميزة الكبيرة؟ إن معناه جيد لأن الذي بحث عن الأنس والسلوة وجدهما عند هذه النار، فإن فوائد هذه النار والموقد الذي تنبعث منه كثيرة جداً، ولكن الجاحظ لم يهتم بالمعنى، لأن المعنى لم يكن هدف الجاحظ، بل اعجبه السبيل الذي سلكه الحطيئة ليجعل من معنى بسيط قبة جميلة وروضة غناء، ولا أريد أن استرسل فها هو يقول عن نفسه: (إني لم أعجب بمعناه أكثر من عجبي بلفظه وطبعه ونحته وسبكه)، لأن الطابع لقول الحطيئة جعلك تصل إلى معنى حلو جميل يخفى على كثير من العرب أو غيرهم.
وقد تعرض لحالة الإعجاز والتحدي في القرآن الكريم، ورأى أن السورة الطويلة أو القصيرة لها معنى محدد، ومن اليسير أن تدركه، والجاحظ لم يضرب مثلاً على السورة ولكننا نضرب المثل بسورة الكوثر؛ ومعانيها هي: أنعم الله تعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم بنهر في الجنة، وأمر الله تعالى رسوله أن يصلي صلاة العيد ثم يذبح تقرباً لله، وأخبره أن كل من يكره الرسول فهو آثم ومجزي بسوء عمله. إن المشركين يستطيعون ان يتصوروا بعض المعاني ثم يذكروها، ولكن كيف يأتون بالبناء، وكيف ينشؤون السورة بسبكها ونظمها ونعمها ومعمارها؟.
قال هذا العالم اللغوي الفذ: (لو أن رجلاً قرأ على خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة لتبين لهم في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو ذهب هذا الرجل إلى أبلغ العرب لظهر عجزه عنها.
وقد سخر الجاحظ من أحد علماء عصره وهو أبو عمرو الشيباني، لقد سمع أبو عمرو بيتين من الشعر فاستحسنهما جداً، فكلف رجلاً بأن يأتيه بورقة ليكتبهما، وهما:
لا تحسبن الموت موت البلى: وإنما الموت سؤال الرجال، كلاهما موت ولكن ذا: اشد من ذاك على كل حال قال الجاحظ: أنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول الشعر أبداً، وربما أزعم أن ابنه لا يقول الشعر أيضاً، لقد استحسن الشيخ المعاني، وهي مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي!!.

منقول