ما رجعت الشتوية ..!
على حدود شهر أيلول وورقه الاصفر, كنا حتى عهد قريب من سنوات لم تكن عجافا على موعد مع قطرات مطر تحمل البشرى بموسم شتاء .
كان يأتي محملا بماء وخيرات ,ويقلب نهج حياتنا فيوشحه بصوف وحساء ساخن وسجاد ينثر على ارضيات بيوتنا وتجمع عائلي حول مدفأة تعتليها كسرة خبز تحمص بالزيت والزعتر لتفوح رائحتها في المكان وتنثر بركة القناعة والرضى بما قسم الله سبحانه وتعالى .
غير اننا ودعنا ايلول والتشرينين وولجنا كوانين وما برحت الارض عطشى تتطلع الى سماء ملبدة ترجو اغاثتها قبل سواد الشح والمرض والخوف من صيف تندر به المياه وزرع يابس لا يثمر الا شوكا .
وبعد « ورقه الاصفر شهر ايلول « كانت فيروز صدحت ب « رجعت الشتوية « التي نهل منها الناس عبارة تتداول فيما بينهم في مثل قبل هذه الايام من كل عام , بيد ان الشتوية هذا العام « ما رجعت « , فقد اشتقنا لرائحة التراب بعد اول الغيث , اشتقنا للعب الاطفال تحت حباته يمرغون ثيابهم بالطين ويؤنبون لتسببهم باتلاف احذيتهم العتيقة اصلا.
تقنا للوقوف على الشرفات نرقب نزول المطر وكأنه عيد توزع فيه الهدايا على الناس , وكنا نبقى تحت المطر حتى لو بلل ثيابنا ففي ذلك طهارة للروح واحساس بغسيل الارض التي تنعكس على النفوس بكثير من العطاء والتبشير بغد اخضر تروى ينابيعه فيروي ظمأنا .
« ورغم انني بدلت الثياب من صيفي الى شتوي منذ منتصف شهر ايلول الماضي , غير انني لم استعمل منها شيئا بسبب غياب المطر والبرد , ما اضطرني الى اعادة الاعتماد على ثياب صيفية « هكذا تقول هند الصباغ – ربة بيت - مستغربة ما اسمته انقلابا على مواقيت الشتاء المتعارف عليها منذ زمن .
وتضيف : على غير العادة قمت وزوجي بتزويد البيت « بمونة الكاز « التي تكفينا لموسم الشتاء كله , وفرشت السجاد ودعمت اسفله ب « الموكيت « لمزيد من الحرص حتى لا يبرد طفلي بشار وعمر , غير ان هذه التجهيزات كلها لم تعد ذات معنى وانا اصحو من النوم كل يوم على شمس وكأنها حارقة تغطي ارجاء منزلي , وتعلق : متى يأتي الغيث , اشتقنا لرائحته وللون السماء الداكن ولمشهد الناس تتجمع عند المخابز ومحطات الوقود بعيد نشرة طقس تبشر بايام ماطرة .
وينظر ابو بسام – موظف قطاع عام – الى الانحباس المطري بطريقة مختلفة قائلا : قد يكون هذا الانحباس رحمة بالناس الذين لا يملكون ما يكفي للتزود بالوقود او شراء الالبسة الشتوية التي يرتفع سعرها بمجرد ولوجنا بفصل الشتاء , بيد ان زميله في العمل يقاطعه بالقول : لا شيء بالدنيا يعلو على اعتبار نزول المطر الذي هو رحمة بالناس فتقل ميكروبات الامراض وينقى الجو من التلوث ونعيش فصل الشتاء كما هو , لا كما نعيشه هذه الايام قحطا ومحلا !!
ويجلس بائع البسة في سوق بجبل الحسين في عمان امام محله ويده على خده « يتشمس « بانتظار زبائن تبتاع البسة شتوية , وعبثا ينتظر كما يقول فلا يدخل محله الصغير اكثر من ثلاثة زبائن على اكثر تقدير قد يشتري احدهم فيما يعاين الاخرين البضاعة ليس الا .
وتقول السبعينية ام اسماعيل : كنا ننتظر الشتاء بفارغ الصبر بعد ان تكون شمس مواسم الحصاد قد لوحت سمرتنا , ونكون قد اشتقنا للفحة هواء تذكرنا بتعاقب الفصول كما اعتدنا عليها , لفحة توعدنا بمطر وبرق ورعد , وليالي برد قارص تجمع العائلة حول كانون الحطب على احاديث غلة المواسم وبيع المحاصيل , وتتنهد متسائلة : ايه , ما الذي جرى وما سبب هذا التحول في الطقس .؟
وتشاطر الثلاثينية سهاد رأي ام اسماعيل فيما هي تتساءل : هل يختفي حقا فصل الشتاء بمظاهره المعتاده ونصبح كبعض الدول التي لا تشهد امطارا الا ما ندر ؟ لا آمل ذلك ابدا , بل نتمنى كل الخير لبلدنا الغالي الذي يستحق الكثير , متضرعين الى الباري تعالى ان يبعث الغيث الكثير ليروى عطش الارض والناس .
ويرى متخصصون في الارصاد الجوية إن موسم الشتاء الحالي يبتعد عن مظاهره في السنوات الماضية والتي كانت تشهد هطولا للامطار في مثل هذا الوقت من السنة مؤكدين ان تأخر المطر يشير الى اننا نعيش واقع الانحباس المطري
ووفقا لموقع طقس الاردن الالكتروني فان الانحباس المطري نتج عن كتلة هوائية باردة قُطبية المنشأ في غرب القارة الأوروبية وعن اندفاعها بشكل تدريجي إلى شمال غرب أفريقيا ما يؤدي الى اندفاع تيارات جنوبية غربية جافة في طبقات الجو العليا تتسبب بحدوث إلانحباس المطري والارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة إلى أعلى من معدلاتها خلال ساعات النهار.
وبحسب ناشر الموقع محمد الشاكر فلقد شهدت المملكة مثل هذا الانحباس المطري الذي نعيشه هذه الايام وذلك في مواسم سابقة , ولكن الانحباس المطري الحالي لا يشير الى توقعات سلبية لجهة قلة الامطار , اذ ان التوقعات الجوية تظهر ان موسم الشتاء سيشهد كمية أمطار حول معدلاتها المتعارف عليها وقد تكون أعلى منها في عدد من المناطق.
وحتى ذلك الحين نتمنى ان يبعث الله سبحانه وتعالى الغيث , وان تستجاب صلوات الاستسقاء اليوم رحمة بالناس , وان تغمر الارض التي ارتوت من دماء شهداء لبوا نداء الواجب بمياه تكفيها لتمتزج بطهارة ترابها وتنتج نبتا وزرعا يكون كفافنا ويزيد .
منقول